البداية بـ 30 قرشًا في تجارة الأطفال ” بومب – شمس وقمر – بالون” إلى رائد في النهضة والصناعة المصرية.
في مشهد مهيب وجنازة شعبية شاركت فيها كل الفئات المجتمعية ، على رأسهم مندوب عن رئاسة الجمهورية ومسئولين ورجال أعمال ، وشخصيات عامة ومحافظين ، وأعضاء مجلس نواب وإعلاميين وصحفيين ، ورجال وسيدات كبار السن وشباب من الجنسين وأطفال ، تم الجمعة الماضي تشييع جثمان الحاج محمود العربي رجل الأعمال المصري المعروف ، وشهبندر تجار مصر، الذي كان وسيظل نموذجًا يُحتذى به في خدمة بلده ، وقدم الكثير من الأعمال الاقتصادية والصناعية بصفة خاصة ، والأعمال الخيرية والإنسانية والاجتماعية بشكل عام.
ونعت كل مؤسسات الدولة العامة والخاصة الحاج محمود العربي ، كما شهدت مراسم العزاء التي أقيمت الأحد الماضي وجود كل الفئات الشعبية بمختلف الانتماءات من وزارء ومسئولين ورؤساء هيئات عامة وخاصة ، وشخصيات عامة ، والمجتمع التجاري بمختلف أنشطته ، ورياضيين ورجال دين وإعلاميين وصحفيين ، كما شارك نائب السفير الياباني بالقاهرة في مراسم العزاء ، وحرصت وسائل الإعلام المختلفة على نقل العزاء بصورة المختلفة كل وسيلة حسب طريقتها.
ومن المشاهد اللافتة للنظر، والتي جذبت أنظار الجميع أثناء جنازة الحاج محمود العربي هو تَجمُع الطلبة وصغار السن ممن أنشأ لهم الحاج محمود العربي كُتابًا لتحفيظ القرآن من أهل قريته بالمنوفية ، على هيئة حلقة أمام قبره لتلاوة القرآن على روحه ، بوجوه ملائكية تؤكد فعلًا أنه من زرع طيبًا حصد أطيب ، ومن زرع خيرًا حصد خيرًا منه ، وكذلك المشهد الآخر اللافت للنظر هو تناول السوشيال ميديا لوفاة الحاج محمود العربي ، هذا الراحل العظيم ، والدعاء له من كل مكان ، من يعرفه ومن لا يعرفه.
وأدت مساجد كثيرة بالمحافظات المختلفة وفي بعض الدول الخارجية صلاة الغائب على الراحل الحاج محمود العربي ، في الوقت الذي تمت عليه الصلاة من مسجد العربي بأبي رقبة بالمنوفية وسط حديث الجميع بأن أعمال هذا الرجل ونجاحه يعتبر فخرًا للمصريين ومثالًا يُحتذى به ، كرجل عصامي كافح حتى وفقه الله وكتب له النجاح رغم بدايته البسيطة ، مشيرين إلى مقولته الشهيرة “الشاطر الذي يكسب الدنيا والآخرة و يتقي ربنا في كل تصرفاته ، ودائمًا يضع الله نصب عينيه ومن ينس الله سينساه الله” ، وهذا سر نجاحه.
كان الراحل الحاج محمود العربي يتسلح بسلاح الإنسانية والطيبة ، ويتسابق لإرضاء الله بأفعال الخير ، ويشهد له القاصي والداني بفضل إنسانيته ودوره الصناعي والخيري والخدمي ، وكانت له أياد بيضاء ، وسطر تاريخًا مشرفًا لرجل الأعمال المصري الناجح طيب السمعة رغم بدايته البسيطة والمطبات الصعبة التي واجهته خلال حياته العملية ، ولكن بإيمانه بالله وإصراره على النجاح والتجارة مع الله أصبح من أهم رجال الأعمال والصناعة في مصر ، بل وذهبت تعاملاته وسمعته الطيبة إلى الدول العربية والإفريقية والأوروبية.
وترك شهبندر تجار مصر تاريخًا حافلًا بالإنجازات ، ليس على المستوى الخيري والإنساني والاجتماعي والاقتصادي فقط بل على كل المستويات ، سنفتخر به ونتوارثه ، وتنتفع به الأجيال المتعاقبة ، ترك أيضًا ثروة بشرية من أبنائه وأحفاده المحترمين المهذبين حافظي المبادئ والقيم المصرية الأصيلة ؛ ليكونوا خير خلف لخير سلف ، ترك شخصيات وطنية إنسانية تسير على منهجه في مناحي الحياة المختلفة .
ولد محمود العربي عام 1932 بقرية أبى رقبة ، وساعده في نجاحه على مستوى الحياة الأسرية والعملية حفظه للقرآن ، حيث كان حريصًا دائمًا على مراعاة الله ، وجمع ماله من الحلال ، وكان مؤمنًا بأن التجارة مع الله رابحة وهى سر نجاحه ، وأن الشراكة في العمل لابد أن تعتمد على تفضيل الآخرين والثقة ومراعاة الله ؛ حتى يُكتب لها النجاح ، وصنع قانونًا خاصًا للتعامل مع الموظفين ، وهو لابد أن العامل يأخذ ما يكفيه من الحوافز والأرباح ومراعاة حالته النفسية ، وأن العاملين شغالين معانا وليس عندنا.
و كان والده مزارعًا مُستأجرًا يزرع أرضًا لم تكن ملكه ، وبدأ حفظ القرآن في سن الثلاث سنوات كخطوة تعلم منها الحلال من الحرام ، ولم يستكمل تعليمه بسبب ظروف والده الاقتصادية ، وعند بلوغه عمر الخمس سنوات ، وكان يدخر من مصروفه 30 أو 40 قرشًا ، ومن حبه للتجارة منذ صغره ، حيث ظهر لديه ميل للتجارة كان يعطيها لأخيه من والدته ليشتري له بها ألعابًا للأطفال ” بومب – شمس وقمر – بالون” ، وغيرها من لعب الأطفال في ذلك الوقت ليبيعها في الأعياد أمام منزله ، ويدخر رأس ماله ومكسبه ليعطيه لأخيه مرة أخرى ليشتري له غيرها ، وواصل هذا التاجر الصغير البسيط حتى بلغ سن الـ10 سنوات ليصطحبه أخوه بعد أن استأذن والديه سنة 1942 إلى القاهرة ليعمل بمصنع للعطور؛ ليعمل به شهرًا ، ثم رفض هذا العمل لرغبته في البيع والشراء والتعامل مع الناس ليذهب بعدها ليبيع في محل قطاعي بالحسين ، ونظرًا لحفظه القرآن الكريم الذي تعلم من خلاله كيفية التعامل مع الزبائن ، لدرجة أن الزبائن كانت تفضل التعامل معه عن صاحب المحل نفسه ، ولما استشعر صاحب المحل ذلك كان يترك المحل لمحمود العربي ويجلس على أحد المقاهي للتسالي لترك الفرصة للزبائن للتعامل مع من يحبون ، وكان يتقاضي في ذلك الوقت 120 قرشًا شهريًا ، وظل على هذا الحال من سنة 1942 إلى عام 1949 حوالي 7 سنوات ليصل مرتبه إلى 320 قرشًا ، ثم بدأت طموحات جديدة له ورغبته فى العمل في محل جملة بدلًا من التجزئة ليتجه إلى إحدى المحال ، التي كان يتعامل معها بشراء بضائع للمحل القطاعي الذي يعمل به ، وقال لصاحب المحل “أنا عاوز أشتغل عندك فقال له لماذا ستترك المحل الذي تعمل به ؟ قال له أرغب في العمل في محل جملة ، فسأله عن مرتبه قال له 320 قرشًا فقال له ستتقاضاهم في محل الجملة ؟ ، فقال له أرغب في 4 جنيهات فوافق صاحب محل الجملة ، لينتقل محمود العربي إلى مرحلة جديدة في التجارة التى كان يحبها لمدة 15 سنة ، ارتفع مرتبه من 4 جنيهات إلى27 جنيهًا ، لترتفع طوحاته من جديد ليكون صاحب عمل مع شريك له ، وأخذا يبحثان عن صاحب مال ليشاركهما بالمال وهما بالمجهود ، إلى أن وجدا هذا الشريك وبدأ الأمر بمبلغ 4 آلاف جنيه ، وتم الاتفاق على أن يأخذ 50% من الأرباح ، ودفع منها ألفى جنيه للمحل ، وتم تجهيز هذا المحل بمبلغ 500 جنيه ليتبقى مبلغ 1500 جنيه من أصل الـ4 آلاف جنيه ليدخر هذا المبلغ بعيدًا عن سعر البضائع التي بدأ يجهز بها المحل من خلال علاقاته الشخصية مع أصحاب المحلات التي كان يتعامل معها ، حيث تم إعطاؤه بضائع بدون تقاضي أي مبالغ مالية ، ليبيع هذه البضائع ثم يقوم بسداد سعرها ، معتمدًا على سمعته الطيبة وتسويق بضاعته من خلال البيع الكثير والمكسب القليل .
وبدأت الحكاية لهذا التاجر البسيط طيب السمعة الذي حافظ على نصيب شريكه رغم مرضه لأكثر من عامين ، ثم لورثته بعد ذلك ، وهذا سر نجاح، ” التجارة مع الله”.وكان محمود العربي يحلم في التحول من رجل تجارة لرجل صناعة، وأن يفتح أكبر عدد من البيوت بزيادة عدد العاملين معه ، ليحقق حلمه بفتح مصنع وراء الآخر ، وتشغيل عدد كبير من العاملين يزداد مع مرور الوقت وفي محافظات مختلفة ، إلى أن أصبح يمتلك أكبر مجموعات صناعية مصرية داعمة للاقتصاد القومي لبلده ، ليرتفع عدد العمالة فى الوقت الحالي إلى 40 ألف موظف ، ليرحل تاركًا تاريخًا اقتصاديًا وخيريًا واجتماعيًا وإنسانيًا يشهد له الجميع ، وخير دليل على ذلك مشهد جنازته وعزاؤه الذي شهد له الجميع .
وتخطت أحلامه الحدود المصرية مع مرور الوقت لتذهب إلى الدول الخارجية على كافة الأصعدة ، إفريقية وعربية ،وجاءت شراكته مع الجانب الياباني لتحقق نقلة نوعية كبيرة في صناعة الأجهزة الإلكترونية وغيرها ، ليصبح وكيلًا لعلامتها التجارية.
وتصل منتجات “مجموعة العربي” لأكثر من 400 منتج في حوالي 22 دولة، وتتكون شبكة التوزيع والخدمات للمجموعة من أكثر من 2800 مركز بيع ، وأكثر من 180 مركزًا لخدمات ما بعد البيع ،ورغم دخوله المعترك السياسي ليصبح نائبًا بمجلس الشعب، إلا أنه لم يرغب في الاستمرار في هذا المعترك ، ولم يترشح مرة أخرى لإيمانه بالتفرغ للعمل الاقتصادي لتحقيق نجاحات له ولبلده محليًا ودوليًا.
وحصل الحاج محمود العربي على أرفع وسام ياباني وسام الشمس المشرقة من الإمبراطور الياباني أكيهيتو في مايو 2009 لدوره في دعم وتحسين وزيادة العلاقات المصرية اليابانية.أنشأ محمود العربي مجموعة كبيرة من المعاهد الدينية ومكاتب تحفيظ القرآن والمؤسسات الخيرية والطبية ، ليس في قريته أبو رقبة فقط ، بل في العديد من الأماكن الأخرى التي في حاجة إلى ذلك ، ولم يدخر جهدًا يومًا عن عمل الخير المشهور به وبناء بيوت الله مثل مسجد “الرحمن الرحيم” الذي يُعد تحفة دينية معمارية يشهد لها الجميع.